قد علقت حبال حبي وصداقتي بحبال حبه هكذا كان الود بيني وبينه لا يحله إلا ريب المنون ولا يكدره إلا مكدر حتى عرض علينا من حوادث الدهر اخترته صديقا صدوقا بعد تفتيش طويل حتى قضيت الشطر الأول من حياتي بعد مرور الأيام على هذه الصداقة الراسخة فرقنا الدهر إلى زوايا الأرض كانت صداقتنا طاهرة نقية من الرذائل حتى وقع بيننا فراق دقيق فتراسلنا حقبة من الزمان ثم فترت عني كتبه ثم انقطعت وقد حيلت بينا أطياف السكون مدة طويلة
فلم أعد إلى بلدتي إلا بعد أشهر فكان أول همي يوم هبطت بلدتي أن أراه وأذهب إليه فأسرعت إليه في الهزيع الأول من الليل والنجوم تتناثر هنا وهناك تغرد أناشيد اللوعة والغموض حتى وصلت إلى داره فلما فتحت الباب المنسوجة بنسيج العنكبوت أدركني من الوحشة عند دخولها ما يدرك الواقف عند القبر فعاينت امراة ملتفة برداء سوداء تجلس على عتبة باب الغرفة لما رأتني اتسعت أساريرها وابتسمت خدودها
قالت متى وصلت في البلدة أرجو منك ألا تفارق قلت لماذا أين زوجك طلحة ماذا صنعت يد الدهر به
قالت أقص عليك فاستمع لما أقول إن صديقك قد أكبّ في لج الإدمان يفوح من فمه رائحة المكر والخمر وأصبح عن أهله منقطعا وعن أولاده وصار أبا قاسيا بعد أن كان حنونا يضرب أولاده ويشتم زوجته وينتهرها في كل ليلة يجلجل الصوت من الطبقة العالية في هذا البيت مع أصدقائه الأشرار ويملئ الجو صراخا وهتافا هذا ما صنعت يد الدهر به بعد استماع جوابها مضيت لسبيله حتى أطلقت السبل في ساعات لعبراتي التي تنحدر من عيوني مترقرقة لا أدري مورده ويلتهب فؤادي الملتاع بالحزن حتى كاد يحترق
هكذا يعبث الدهر بالإنسان ما يعبث به ويريقه من صنوف الشقاء والخذلان وأن الوجوه مرايا النفوس تضيئ بضيائها وتظلم بظلامها
ثم عدت في الصباح الثاني لأرى صديقي القديم فرأيته هائما في أزقة المدن قد استرخى حاجباه وثقلت أجفانه وجمدت نظراته حتى وافى على الستين قبل أن يسلخ الثلاثين فأعرضت عنه وعادت أدراجي إلى البيت لأن السعادة سماء والشقاء أرض والنزول إلى الأرض أسهل من الصعود إلى السماء وقد جاوزت نفسه عن جد العظة والاعتبار
في هذه اللحظات المرة كنت ظلا ظليلا وارفا لهذا الأهل الثاكل أصبحت مؤنسا ومعينا فنشرت بينهم أجنحة الرحمة حتى صعدوا من حفر الشقاء إلى واحة السلامة
لكن لم يكف للدهر بأن يضع على عاتقها من الأثقال حتى أضاف إليها ثقلا جديدا صارت حاملا في دار الشقاء حتى جاءت ساعة وضعها ثم مرضت بعد ذلك بحمى النفاس الشديد وما زال الموت يدنو منها رويدا رويدا حتى وافاها أجلها في ساعة لا يوجد في جانبها غير طفلتها الصغيرة عالقة بثديها
في هذه الساعة دخل هذا الرجل ثائرا مهتاجا مفتشا عن زوجته فرأىها نائمة في حصيرها وحركها حركة شديدة حتى رأى شبه الموت يحدق حول عينيها الشاخصتين فخاف مرتعدا وانفجر باكيا ووطئ في سكرانه صدر ابنته الصغيرة ولم تتحرك بعدها حركة واحدة سرعان ما نبعت من فرائصه بكاء مخترق هدوء الكون وما هذه إلا لحظات استفاق فيها من ذهوله العميق
هكذا يمل الدهر من أفعال الإنسان حتى تشرق له أحيان طويلا للتراجع عنها فيوحشه في جهنم الآلام والأحزان