الانتفاضة
الفلسطينية التي شادها الاحتلال الصهيوني في ال 7 من أكتوبر 2023 ليست وليدة أحداث
تطلب في تحقيق أهدافها الوطنية فقط، بل كانت ثمالة ماء ينهمر من مصب التاريخ
العبقري الذي تغلغل فيه الزنج والإفرنج والقفجان والصقلاب والبشناق والتتار
والأتراك وأهل الله والهلاك والفقراء والملوك والفجار والنساك، حيث ما فتئت أنهار
فلسطين تفكر وليالها تحلم ليوم يضع فيه الأطفال أثقال السماء التي تهدمت على أكتافهم.
ولكن رغم
تتابع النكبات الشنيعة والاقتحامات القبيحة والهجمات البشعة التي حملها
الفلسطينيون في أودية ظنونهم منذ بداية التاريخ، لم يتبادوا إلى باب المقاومة
العسكرية الفوضوية، بل اختاروا باب المقاومة بالحبور، وتلك المقاومة هي الأشد من
المقاومة المسلحة.
هنا بدأت
دار الحبيبة (فلسطين) تقول لحبيبها ( زوارها) عن الحمل الثقيل الذي وضع عليها
بأيادي الإسرائيليين الظالمين، وتقول هي نفسها على نغمة البكاء والنحيب، وتصدي
بالصياح والعويل عن الحياة الحالكة، وعن الثواني الرزيلة "في أبنية القدس أحجار
اقتبست من القرآن والإنجيل، وفيها تعريف للجمال، وتهب فيها ريح البراءة ،وفيها
يطير الحمام معلنا دولة في الريح بين رصاصتيه".
فإن
الكتابات الأدبية من أقلام الفلسطينيين تسجل تاريخ ومجريات فلسطين من ألفه إلى
يائه، ومزيدا، لها قدرة معجزة في تعزيز وإيقاظ القومية والمقاومة بين أهال فلسطين.
هنا
الحرب تترك الحبل على غاربها، و تطن آذان فلسطين أخبار القتلى و الجرحى بين حين
وآخر، حيث دار الحديث يسيل من الأشباح و القميد و السودان و ما فوق البنفسجية كما
كان يدور العباد في سوق النخاسة، في الصباح يقصف الغرب على الشرق وفي المساء يقصف
الشرق على الغرب قصاصا لها، و في اليل يقصف الغرب على العرب، و لكن الغيرة لا توجد
في حين تقصف فيه العرب-وهو اليل-و تتناعس فيه عيون المصابيح، و لا يوجد الفساد
للفساد و القصف للقصف و القبح للقبح، نحن نرد القبح بالجمال و القصف في ملجأ الصبر
و الفساد في سوق التضحية، لأن الجمال أطول عمرا من القبح.
هنا
منصات تجار العبيد و المماليك كلها قد وطأت الثرى بعد أن كن هوامش الكتاب ورعد
الزمان، و كذلك لم يذكر التاريخ قاتل عمر بن الخطاب و لا من أجلى أحمد بن حنبل و
لا قاتل علي، و لكن التاريخ ذكر عمر بن الخطاب و أحمد بن حنبل، وعلي بن أبي طالب.
نعم!
للكتابة هيئة البقاء في عالم عابر وفيها تثبيت اللحظة و تحريفها، و الكتابة رهينة
الزمان، وتصوير للمهام، لذا تحتاج الكتابة إلى عالم كامل و العالم الكامل إلى مكان
كامل و المكان الكامل إلى رجل كامل، كما يصرحه المتنبي في شعره:
أريد
من زمن ذا أن يبلغني * ما ليس يبلغه في نفسه الزمن
دور
الأدب في بناء حاضنة شعبية فلسطينية قوية
فمع
تعاقب الأزمان و الثواني اشتهر الأعلام في هذه المقاومة الأدبية، و بدأت الكلمات تؤثر
بنائيا على المجتمع و الأقلام تتفتح قنطرة الدفاع، و لبق الحديث يهتف عن الحروب الطاحنة
وعن رثاء الشهداء و مواساة الجرحى، حيث تلد هذه الكلمات جرأة في قلوب الأطفال
وشجاعة في نفوس النساء ، ومن الشعراء المقاومين مثل سميح القاسم (2014-1939)، و
توفيق زياد (1944-1929)، و إسماعيل بن حبيب(1996-1922)، و سالم جبران (2011-1941)،
وحنا إبراهيم (2020-1927) وغيرهم من الحاذقين في هذا المجال.
وفي
معاليها الشامخة يطير تميم البرغوثي (1977) مع أبيه مريد البرغوثي (19411-2021)،
ومحمود درويش(1948_2008) اللذين طووا التاريخ في كتابتهم لتجهيز جيل من المجاهدين
والمناضلين القادرين على مواجهة الاحتلال "الإسرائيلي" والدفاع عن
الحقوق والمقدسات الفلسطينية من جديد.
ومن
وجودهم تولد! "في القدس من في القدس إلا أنت"، "وتفوح من بعد
انحسار الغاز"، "وهي تقول لي: أرأيتْ يا أيها الباكي وراء السور"،
و "أحمق أنت؟ أجبيت" لتميم البرغوثي، ورأيت رام الله"، و"أنا
فلسطيني ..لكن من أين؟"، من وليدة مريد البرغوثي، وأجمل ما قال مدير
البرغوثي" لقد أهمل الحديث عما جرى(أولا)،ويكفي أن تبدأ حكايتك من (ثانيا) حتى
ينقلب العالم".
وكذلك
"أنا في حب فلسطين أعيش العمر عمرين"، و"ويا قبة الصخرة"
لنازك الملائكة، و "غزة تبكينا.. لأنها فيها" لسميح القاسم.
وتتميز تطورات
الأدب للمقاومة الفلسطينية في ثلاث مراحل مختلفة، وتميزت المرحلة الأولى التي تمتد
من عام 1948 إلى عام 1967 بأهمية الكتابة الشعرية التي شكلتها مناقر محمود درويش
وسميح القاسم، وتبرزت المرحلة الثانية التي امتدت من عام 1967-إلى 1987 بمزاياها
الكتابية وألمعتها السردية، و يجدر حنا مينا، عز الدين المناصرة بالذكر في هذه
المرحلة، وشهدت المرحلة الثالثة من عام 1987إلى
الزمن الحالي لصعود في الكتابة
المسرحية و الصحفية، ولقدوم العلماء العباقرة مثل وليد خالد و أحمد عطا الله
وغيرهم من الشخصيات البارزة.
لقد أثبت
هؤلاء الأبطال الكرام للعالم أن الإنسان هو الذي يقاوم و يكافح، فالسلاح مجرد
وسيلة للمقاومة، ومهما كان تقدم هذا السلاح فإنه لا يغني عن القوة النفسية
للمقاتل، وإصراره على تحقيق هدفه، وأنه يقاوم من أجل الحق لينصر دين لله، ولتكون
كلمة الله هي العليا.
وكذلك من
أشهر الأناشيد التي سمعناها صغارا " المقيلة صارت رشاشا" و هي تصر
الفلسطينيين على تحول كل ما لديهم من الأدوات لمواجهة المحتلين، حتى صارت هذه
الكلمات تحريضا ضمنيا للمقاومة، لأن الفتح لا يكون فتحا إلا لما يفتح القلوب،
فالطريقة الخالصة لفتح القلوب إنما يكون بكلمات يكتبها الكاتب في أوراقه.
خاتمة
ففي الجملة،
الكتابة هيئة البقاء في العالم العابر، تذكر التاريخ و المواقيع التي مشت في أراذل
العمر، والكتابة رهينة الزمان و تصوير للمهام و تثبيت لليقين و تصديق ما وقع و تلخيص
من ما لم يعق التاريخ، و الكتابة تفكر الملايين من الناس تنظم الجيل من المجاهدين
والمناضلين القادرين على مواجهة الاحتلال "الإسرائيلي" و الدفاع عن
الحقوق و المقدسات الفلسطينية من جديد.