محمد نهال الهدوي م
إن ولاية كيرالا تمتاز من بين سائر الولايات الهندية بطبيعتها الجغرافية وثقافتها وسلوكياتها المكرمة، فهي تتمتع بسلامتها وتوادها وإنسانيتها وأخلاقياتها الفاضلة، وبلمسة يمنية جميلة في أزياءها وطعامها وشرابها وما ينطوي عليه قلوبها، وكل ذلك لعدة أسباب وعوامل، ومن أهمها وفود العلماء العبقريين والأولياء المقربين من البلاد العربية التي هي منشأ الحضارة الإسلامية، وقد استمدوا لبابها ومغزاها وشمروا عن ساقهم وبكل جدية لإيصالها وتبليغها من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، واتخذوا من المساجد والجوامع مركزا لهم وموطنا وقاموا فيها بالتدريس والتربية والدعوة، ومن تلك الأسر التي تشرفت بها ربوع كيرالا ومدت فضلها ومجدها إلى الآفاق الأسرة المخدومية التي ينتمي أصلها إلى قبيلة يمنية مباركة، وقد كان لها نفوذ كبير في الأوساط الاجتماعية دينيا وثقافيا وأدبيا، واستقبلتها ديار مليبار بكل حفاوة وكرامة اعتبارا بعلاقتها الوطيدة بالإسلام حيث قام بنشره والدعوة إليه في مختلف ديارها الصحابة الأجلاء أمثال معاذ بن جبل وعمار بن ياسر وأبي موسى وغيرهم، وبالرغم من ذلك فهي تربة مباركة مشهورة لحكمتها الغالية وإيمانها الراسخ وتراثها العريق والقديم، وهذا ما يتجلى في قول النبي صلى الله عليه وسلم «أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبا وأرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل والسكينة والوقار في أهل الغنم»، وفي بعض الروايات مقصورا على «الإيمان يمان والحكمة يمانية».
والأسرة المخدومية تعتبر من إحدى الأسر التي وفدت إلى الهند من المعبر بجنوب اليمن في القرن التاسع الهجري، فاتخذوا من تملنادو مسكنا لهم ومركزا لنشر العلوم والمعرفة، ثم تحولوا إلى كوشن فإلى فناني بكيرالا، وتجلوا هناك منارة للعلوم والعرفان ومصادر العلوم الشرعية، وفدت إليهم الأجيال للاغتراف من كؤوس علومهم المتقنة، فجعلوها كعبة العلوم ومنبر الحكمة ومكة مليبار، وللمخاديم المعبريين دور بارز وخدمة جليلة في نشر التعاليم الإسلامية والعلوم الإسلامية واللغة العربية في مناطق عديدة بجنوب الهند مثل تنجاوور وناغور ومدهوراي وكوشي وفناني، واشتهر كثير من أعضاء هذه الأسرة كعلماء عباقرة في علوم مختلفة، وكان مؤسس الأسرة المخدومية في كيرالا الشيخ زين الدين إبراهيم بن أحمد على ما يقوله زين الدين المخدوم الثاني في كتابه «تحفة المجاهدين».
وقد أسس المخدوم الكبير أبو يحيى زين الدين علي أحمد المسجد الجامع بفناني سنة 925ه، وبدأ فيها التدريس الديني وكان يفد إلى تلك الحلقة كثير من الطلاب حتى من البلاد العربية، وصارت محورا يدور حوله التوعية العلمية والإسلامية في جنوب الهند، وتشكلت الثقافة والنشاطات الإسلامية منطبقة على الدروس العلمية في المسجد الجامع، وقام الخريجون من تلك المدرسة الدينية بترويج تعاليم الإسلام واللغة العربية في ربوع ملبار، وكانت هذه الثقافة مما رفع صيتها حتى اشتهرت باسم «مكة مليبار».
صنف كثير من علماء هذه الأسرة كتبا غزيرة بما يتعلق الفنون الإسلامية مثل التاريخ والفقه والتصوف والنحو والفقه فضلا عن قيادتها الاجتماعية التي امتلكوها من خلال النفوذ بين العوام والخواص من المسلمين، ومن مقدميهم أبو يحيى زين الدين بن علي المعروف باسم زين الدين المخدوم الأول صاحب قصيدة «تحريض أهل الإيمان على جهاد عبدة الصلبان» وحفيده الشيخ زين الدين بن محمد الغزالي المعروف بزين الدين الصغير صاحب كتاب»تحفة المجاهدين في بعض أخبار البرتقاليين» و»فتح المعين بشرح قرة العين،» وكذلك الشيخ عبد العزيز بن زين الدين وأحمد بن زين الدين المعروف بالمخدوم الأخير وباوا مسليار أيضا لهما خدمات في تنمية اللغة العربية وتطويرها.
زين الدين المخدوم الكبير
وكان مولد المخدوم الكبير زين الدين عام 873ه في كوشن، ووفاته سنة 947ه، انتقل إلى فناني مع عمه إبراهيم بن أحمد، وكان ينتمي إلى الطريقتينق الجشتية والقادرية عن شيخه قطب الدين بن فريد الدين وإلى الطريقة الشطارية عن شيخه ثابت بن عين بن محمود، وكان مجاهدا متحمسا ضد البرتغاليين وداعيا ذا نفوذ كبير في المجتمع وقاضيا وخطيبا مصقعا، وكان المسجد الذي بناه في فناني بعد رجوعه من الأزهر الشريف مركزا للغة العربية، يقول عنه زين الدين المخدوم الثاني بأنه منذ بناء المسجد الكبير «صارت قرية فنان منارا للعلم والهدى حتى استقرت باسم «مكة كيرالا» يرجع إليها الناس خواصهم وعوامهم وعلماؤهم وأمراؤهم يطلبون الحل لمسائلهم الدينية والاجتماعية».
وقد صنف كتبا عديدة في اللغة العربية في التاريخ والعروض والنحو وغيرها من الفنون الإسلامية، ودراسته في جامعة الأزهر حيث كان ساعدته للنبوغ في العلوم الإسلامية واللغة العربية، وأهّلته لتصنيف كتب عديدة في اللغة العربية، ومن أشهر كتبه باللغة العربية: «إرشاد القاصدين في اختصار منهاج العابدين»، و»حاشية وافية على الإرشاد»، و»مرشد الطلاب»، و»هداية الأذكياء إلى طريقة الأولياء»، و»تحريض أهل الإيمان على جهاد عبدة الصلبان»، و»كفاية الطالب في حل كافية ابن الحاجب»، و»كفاية الفرائض في اختصار الكافي في الفرائض للشيخ الصردفي».
وكتابه «هداية الأذكياء» منظومة تحتوي على 189 بيتا في المعلومات المهمة في التصوف مثل الطريقة والحقيقة والزهد والآداب والتوبة واكتساب العلم، وقد ذكرنا بأنه كان شيخا في الطريقة القادرية والطريقة الشطارية، قرضها المخدوم الأول حينما كان طالبا في جامعة الأزهر، ولهذا الكتاب شروح منها «كفاية الأذكياء في منهاج الأصفياء» للسيد أبي بكر البكري، ومطلعها:
«الحمد لله الموفق للعلى
حمدا يوافي بره المتكاملا»
وقصيدته المعنونة ب»تحريض أهل الإيمان» والتي تحتوي على 135 بيتا يدور بحثه عن الأمة المسلمة في مليبار في عصر الإفرنج ويحرضهم للقتال والمقاومة ضد البرتقاليين في لغة عربية فصيحة، يقول المخدوم الصغير عن جده المخدوم الأول: «وقاد الجهاد المقدس ضدهم روحيا وعقليا وأيقظ الشعور الجهادي في أذهان المسلمين»، ومن القصيدة:
«بغوا في مليبار بأصناف بغيهم
وأنواع شدات وأجناس فتنة
من الأسر والنهبى وإحراق مسجد
وخرق كتاب ثم هتك لحرمة»
وكتابه «ذكر الموت» و»مرشد الطلاب» يحتويان على عدة موضوعات يحتاج إليه المسلم في حياته كالعبادات والأذكار وذكر الموت ومواعيظ يجب عليه الاتعاظ بها، وعلاوة على كتبه في اللغة العربية ترجم كتاب نور الدين الايجمي إلى اللغة العربية بعنوان «شعب الإيمان،» يذكر فيه سبعا وسبعين شعبة في الإسلام، وشرحه ل»التحفة الوردية» لعمر بن الوردي وشرحه ل»ألفية بن مالك» مشهوران في علم النحو.
الشيخ عبد العزيز بن زين الدين
ولد سنة 914ه، وكان والده زين الدين المخدوم الكبير، تعلم من والده العلوم الدينية والعربية ومن ابن حجر الهيتمي الكتب الشرعية، وله كتب عديدة في اللغة العربية، من أشهرها: «متفرد»، و»مرقات القلوب»، و»كتاب معرفة الصغرى»، و:كتاب معرفة الكبرى»، و»مسلك الأتقياء».
وصنف كتاب «مسلك الأتقياء» شرحا لكتاب أبيه «هداية الأذكياء»، وكتاب»متفرد» كتاب معنيّ للمبتدئين في الفقه الإسلامي، وكذلك كتابه «أركان الصلاة» يتحدث عن الصلاة، وأتم شرحا لكتاب «ألفية بن مالك» في علم النحو من الباب الذي أوقف فيه أبوه زين الدين المخدوم الكبير.
الشيخ زين الدين بن محمد الغزالي
ولد الشيخ زين الدين بن محمد الغزالي سنة 937ه في شومبال بقرب ماهي، ويقول بعض المؤخون بأنه ولد في فناني، يعرف بالمخدوم الصغير أو المخدوم الثاني، حصل العلوم الشرعية من أبيه ومن عمه عبد العزيز المخدوم، ومن علماء مكة مثل ابن حجر الهيتمي وغيره حيث قضى فيها سنوات عديدة، وكانت له علاقات قوية مع علماء ذلك العصر مثل الملا علي القارئ والسيد أحمد بن سيد العيدروسي والسياسيين أمثال الساموتري أكبر شاه وعادل شاه بيجابور، وقام بالتدريس في المسجد الجامع بفناني وكان يأتي إليه الطلاب من بلاد خارج الهند، وقضى فيه ستة وثلاثين سنة يتعامل مع الناس في دينهم ودنياهم، ويرشدهم إلى التعليمات الدينية والشرعية، وقد حدثت في تلك المرحلة كثير من الوقائع السياسية والتاريخية مثل فتح قلعة شاليم، وكانت له مكانة مرموقة عند الساموتري والي كالكوت وقد دعمه ودعا له في كتابه التاريخي «تحفة المجاهدين».
وله كثير من المؤلفات العربية أشهرها كتاب «تحفة المجاهدين في بعض أخبار البرتقاليين» الذي كتبه في تاريخ مسلمي مليبار يحرض المسلمين للجهاد خلاف الإفرنج ويتعد أول كتاب تاريخي في كيرالا وكتاب «فتح المعين بشرح قرة العين» أشهر كتب فقهية حسب المذهب الشافعي في ديار مليبار، ولا يزال يسود في المدارس والكليات الإسلامية في كيرالا حتى في هذه الأيام، وتم اختياره في مقرر جامعة الأزهر الشريف بمصر، وله شروح وحواشي عديدة منها «إعانة الطالبين لأبي بكر البكر و»ترشيح المستفيدين» لأبي علي السقاف، وكتب المخدوم الصغير المشهورة تضمن كتاب «إرشاد العباد إلى سبيل الرشاد» في الفقه الإسلامي وكتاب «الأجوبة العجيبة عن الأسئلة الغريبة» في حل عقد لبعض المسائل العارضة بالهند وكتاب «أحكام إحكام النساء» في الفقه الشافعي.
ولغته فصيحة ومتفوقة للغاية، وأسلوبه رشيق وممتاز لا حشو فيه، ربما يجانس الكلمات في آخر العبارات، واشتهر بالنثر من الشعر، وفيما يلي نموذج للغته الجميلة: يذكر في «تحفة المجاهدين» عن السلطان علي عادل شاه على سبيل براعة الاستهلال البلاغية: «ماحي الكفر والضلال عن بلاد الله الذي صبر محبه العلماء والصلحاء بصب عينه وإغاثة الغربا والضعفاء، مطمح نظره، مالك أزمة المعالي، حسنة الأيام والليالي، الفائز مع حداثة سنه بالسعادة الأبدية والحائز مع كثرة حساده بالمفاخر السرمدية، الذي طبق أرجاء الوجود سير مكارم أياديه، وعبق نواحيه شذا نفحات ذكر محاسنه.. الخ».
المخاديم الأواخر
والمخاديم الأوائل اشتهروا بالتثقيف والتوعية العلمية من المخاديم الأواخر، ورغم ذلك يوجد كثير من العلماء المخدوميين الذين قاموا بإسهامات علمية، ومن جملتهم الشيخ أحمد بن زين الدين ولد في سنة 1277ه وتوفي سنة 1314ه، ونال العلوم الشرعية وتمهر في عدة فنون من علماء مليبار ومكة حيث قضى فيها خمس سنوات، وعمل كمدرس وقاض في مليبار، يعرف باسم باوا مسليار، وله تصنيفات عديدة منها كتاب «فيض الحافظ في حكايات تسرّ السامع واللافظ،» ومحتواه يدور حول الإرشادات للواعظين والخطباء من حيث المضمون وأسلوب الأداء، وكتاب»ذخائر الإخوان في مواعظ شهر رمضان» في فضائل رمضان من حيث أيامه والصدقات والأذكار والعبادات، وكتاب «تجذير الإخوان عن مكايد النسوان» في فتن النساء وكيدهنّ على أساس الدلائل والتواريخ الشرعية، وكذلك الشيخ عبد العزيز بن عبد الله المخدوم الذي ولد في سنة 1269ه في فناني، وله كثير من التصنيفات منها قصيدة «البهجة السنية على رسالة السمرقندية».
الخاتمة
فإن خدمات العلماء من الأسرة المخدومية للعلوم الشرعية واللغة العربية مما لا نظير له في تاريخ كيرالا والذي يجعل الأسرة المخدومية أكبر أسرة من حيث التأثير الاجتماعي والإسهامات العلمية في ديار مليبار، اشتغلوا بترويج العلوم الشرعية بتدريسهم وتزويد اللغة العربية بتصنيفاتهم المختلفة، والتوعية الدينية والنهضة العلمية في بقاع تملنادو وملبيار حدثت بسب الخدمات الجليلية الخالصة التي قام بأدائها العلماء المخدوميون، ومن الملحوظ أن جذور الأسرة المخدومية ترجع إلى اليمن، مما يزيد أهمية والدور البارز للعلماء المنتمين إلى سلالة يمنية في التثقيف الديني جنوب الهند بالعموم ومليبار بالخصوص، وفي الواقع فإن اللغة العربية والعلوم الإسلامية شاعت وتطورت في مليبار على الأسس القيمة واللامثيلة من جانب علماء عباقرة من الأسرة المخدومية.